في أقل من عشر سنوات تغيرت الإنترنت من حيث البناء والوظيفة والمنافع والمخاطر وتحولت من مجرد وسيط يستخدم في مطالعة وتبادل بعض المعلومات من وقت لآخر, إلي أداة اندمجت بصورة عميقة في حياة مئات الملايين من البشر والمؤسسات والشركات والهيئات حول العالم, حتي أصبح هناك رابط' عضوي' بين إتاحة الشبكة وخدماتها وقدرة هذه الملايين من البشر والمؤسسات علي ممارسة العمل والإنتاج والحياة, بعبارة أخري أصبحت الإنترنت'مرفق إنتاجي' يتعين الانتباه إليه وتأمين إتاحته واستمراريته مثلما هو الحال مع مرافق الكهرباء والماء والطرق والصيرفة والرعاية الصحية وغيرها
وقد وفر هذا التحول النوعي الفرصة كاملة للإنترنت لكي تنشئ عوالمها المختلفة وفي مقدمتها عالمها الاقتصادي الذي تبلور عند الكثيرين تحت مصطلح اقتصاد الإنترنت, وقد شهدنا فعاليات وأحداث دولية مهمة ورفيعة المستوي تعقد راية هذا المصطلح, كان من بينها الاجتماع الوزاري لأعضاء دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية الذي عقد بالعاصمة الكورية سول يومي17 و18 يونيو الماضي وخصص للبحث في مستقبل اقتصاد الإنترنت, وشاركت فيه مصر بوفد رأسه وزير الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات, واللافت للنظر أنه بينما اقتصاد الإنترنت يتوسع بسرعة كبيرة ويتعمق إلي مستويات غير مسبوقة داخل شرايين الاقتصاد العالمي, لاتزال الصورة لدي الكثيرين بمصر والمنطقة العربية ملتبسة حتي علي مستوي المفهوم العام وتعريف المصطلح.
واقتصاد الإنترنت ليس ظاهرة منفردة نشأت بشكل مستقل, بل جزء من ظاهرة أكبر ترفع شعارات أوسع نطاقا وتتبلور في مصطلح أعم وأشمل, وهو' اقتصاد المعلومات والمعرفة' الذي يدور بدوره في فلك مصطلح أكبر هو مجتمع المعلومات والمعرفة, ولذلك فإن تناول اقتصاد الإنترنت لابد أن يبدأ بالعودة أولا إلي جذوره الأعمق والأعرض داخل ظاهرة اقتصاد المعلومات والمعرفة, حتي نعرف عن أي شيء نتحدث قبل الخوض في تفاصيل الوجه أو العالم الاقتصادي الإنترنت.
ولعل تفكيك الظاهرة قد يوفر نقطة بداية صحيحة علي طريق تحرير المصطلح, ففي ظاهرة اقتصاد المعلومات والمعرفة نحن عمليا أمام معادلة مكونة من ثلاثة أطراف:
ـ البيانات والمعلومات والمعرفة.
ـ تكنولوجيا المعلومات والاتصالات التي توفر أدوات تداول إدارة وتوظيف البيانات والمعلومات والمعارف.
ـ الاقتصاد بمفهومه وإطاره العام الذي يشمل جميع أوجه الحياة الاقتصادية المعروفة.
وعلي مستوي التعريف وتحديد المعاني فإن الشق الأول في المعادلة وهو المعلومات والمعارف تعني' المحتوي الذي يتشكل من الظواهر والحقائق المحسوسة البيانات والتعليمات المطلوبة لفهم وتفسير هذه البيانات وإعطائها معني, ثم يكتسب أهميته من وظيفته, ومن حاصل تجميع المعلومات ومعالجتها وتحليلها وفهمها تتولد المعرفة'.
أما تكنولوجيا المعلومات والاتصالات ـ التي تمثل الشق الثاني في المعادلة ـ فهي من منظور المعني اللغوي والاصطلاحي البسيط تتألف من تكنولوجيا المكونة من مقطعين تكنيكtechnique و لوجيlogy, وكلمة( تكنيك) تعني الأسلوب أو الطريقة أما لوجي فتعني العلم, وبالتالي فإن كلمة تكنولوجيا يمكن فهمها علي أنها' علم الأساليب والطرق, أو بمعني آخر المعرفة الفنية'
أما الاتصالات فتعني' الوصول بالمعلومات من نقطة لنقطة أو تحريكها من مكان لآخر باستخدام وسائل معينة لإرسال المعلومات من نقطة انطلاقها واستقبالها في نقطة وصولها',وعلي ذلك يمكن القول أن تكنولوجيا المعلومات والاتصالات هي' الطرق والأساليب والمعرفة الفنية المرتكزة إلي العلم التي تستخدم في جمع ومعالجة وتخزين وإدارة وتأمين المعلومات والوصول بها من نقطة لأخري باستخدام وسائل إرسال واستقبال معينة'.
ولو حولنا النظر للشق الثالث وهو الاقتصاد سنجد أن دورة النشاط الاقتصادي تقوم من بدايتها لنهايتها علي المعلومات والمعارف, بدءا من التفكير في النشاط الاقتصادي أيا كان نوعه أو حجمه أو الآليات المستخدمة فيه وانتهاء بتنفيذه وجني عوائده والتفكير في تطويره وتحسينه وتنميته أو حتي إيقافه والإقلاع عنه.
وعند تطبيق هذه المعادلة ثلاثية الأطراف علي ما تشهده الساحة الاقتصادية العالمية حاليا يمكننا أن نلمح اتجاهين أو مسارين رئيسيين للظاهرة:
ـ المسار الأول يتلاقي فيه طرفان فقط من أطراف المعادلة, وهما المعلومات وأدوات وتكنولوجيات الاتصالات والمعلومات, ليشكل الاثنان معا فرعا من الاقتصاد قائما بذاته, له قواعده ومؤسساته وأصوله وموارده البشرية وأسواقه ووسائل تطويره وتنميته, ويمكن القول أنه فرع ولدته ثورة الاتصالات والمعلومات بالأساس, وكل أنشطته وخصائصه وآليته تدور في كنف هذه الثورة وتخضع لما تمور به من تفاعلات وما تطرحه من أدوات مبدعة وأحيانا صادمة, ولو استندنا إلي هذا الاتجاه سنصل في النهاية إلي مصطلح( اقتصاد المعلومات أو اقتصاد المعرفة'
أي ذلك الفرع أو الشق من الاقتصاد الذي يتعلق باقتصاديات وعمليات صنع وإنتاج وتسويق وتوظيف وتشغيل واستهلاك وإعادة إنتاج المعلومات والمعرفة ذاتها, وهو يشمل طيفا واسعا من الصناعات والأنشطة منها صناعات البرمجيات والإلكترونيات والاتصالات ونظم المعلومات وخدمات المعلومات, كما انضمت إليه أخيرا الأنشطة التي لها علاقة بالمحتوي مثل مراكز الأبحاث ومؤسسات الفكر والمكاتب الاستشارية ومكاتب دراسات الجدوي ومراكز اللغات والترجمة ودور النشر والصحف ووكالات الأنباء والإذاعة والتلفزيون, كما دخلته بعض الأنشطة ذات العلاقة بالجوانب الطبية والبحوث البيولوجية والدوائية التي تشكل في حد ذاتها محتوي يقام عليه نشاط اقتصادي.
هكذا أصبحت هذه الأنشطة والصناعات تمثل قطاعا يستحق بخصائصه وملامحه التي تميزه عن قطاعات الاقتصاد الاخري أن يحمل لقب اقتصاد المعلومات أو اقتصاد المعرفة, الذي بات له دوره داخل الاقتصاد العام, مثلما هو الحال عندما نتحدث عن الاقتصاد الزراعي والاقتصاد السياحي والاقتصاد التصنيعي وغيرها.
ـ المسار الثاني يتلاقي فيه الأطراف الثلاثة للمعادلة معا' شق المعلومات وشق تكنولوجيا المعلومات والاتصالات وشق الاقتصاد', ومرجع هذا المسار أنه لم تكن هناك حدود تقف عندها تأثيرات وتداخلات ثورة المعلومات والانفجار والتدفق الكبير في تكنولوجيا الاتصالات والمعلومات لكي تصنع من نفسها قطاعا اقتصاديا متميزا ومفصولا عن قطاعات الاقتصاد الأخري, بل تخطت ذلك بكثير وانصهرت وتمازجت بشدة في جميع قطاعات الاقتصاد الأخري, علاوة علي أنها لم تظهر من الأصل لتكون غاية في حد ذاتها
بل ظهرت من أجل توظيفها بأضلاعها الثلاثة في شرايين وقنوات الاقتصاد العام وأفرعه المختلفة حتي تمازجت معا في بيئة عمل حديثة, دفعت به نحو مستويات أعلي من الكفاءة والقدرة علي الأداء وتقديم أجيال متعاقبة من المنتجات والخدمات والقيمة المضافة في دورات زمنية قصيرة المدي وبتكلفة تتجه دوما نحو الانخفاض, ومن ثم فإن ما تطرحه ثورة تكنولوجيا المعلومات والاتصالات من إبداعات متلاحقة إنما تضع بين أيدي الاقتصاد أدوات جديدة للعمل تجعله أكثر تمكنا ومهارة في اعتماده علي المعرفة
ولو استندنا إلي هذا الاتجاه سنصل في النهاية إلي مصطلح( الاقتصاد القائم علي المعلومات أو الاقتصاد القائم علي المعرفة' الذي استطاع أن يحتوي في آن واحد كل من منجزات ثورة المعلومات والمعرفة والاتصالات كبناء مترابط له هياكله المتماسكة معا, وجميع أنشطة وقطاعات الاقتصاد الأخري التي يعتبر تطويرها وتحديثها ورفع كفاءتها هو الهدف والغاية النهائية التي قامت من أجلها ثورة الاتصالات والمعلومات والمعرفة من الأصل
بعبارة أخري نحن هنا أمام مسار يحتوي ذلك الشق أو القطاع من الاقتصاد المتمحور حول المعلومات والمعرفة توليدا وتصنيعا وإنتاجا وتوزيعا والذي قلنا أنه بالإمكان أن نطلق عليه' اقتصاد المعلومات أو اقتصاد المعرفة', كما يحتوي كذلك جميع أشكال التغيير التي تحدثها التكنولوجيا في قطاعات الاقتصاد الأخري لتجعلها معتمدة علي المعلومات والمعرفة في أدائها وإنتاجها للمنتجات والخدمات بشتي صورها.
وإذا أردنا أن نقدم تعريفا للاقتصاد القائم علي المعلومات والمعرفة فيمكننا القول إنه' ذلك الاقتصاد الذي يكون فيه التوظيف الكامل والفعال والمدروس والمناسب للمعلومات والمعرفة ـ في المراحل المختلفة من العمل والإنتاج وإدارة العلاقات داخليا ومع الآخرين ـ هو العمود الفقري الأساسي الذي يحكم حركة ومستوي الأداء والإنتاجية بداخل جميع قطاعاته ووحداته المختلفة'.
وانطلاقا مما سبق نستطيع القول إنه من الصعب النظر إلي أي المسارين كبديل للآخر أو نقيض له علي طول الخط عند تحرير المصطلح, فكلاهما ينظر للظاهرة من زاوية رؤية مميزة, تحمل من احتمالات التكامل والارتباط مع الأخري ما يفوق كثيرا احتمالات الاختلاف, ولذلك فإنه عند التعاطي مع ظاهرة التغيرات الجذرية في دنيا الاقتصاد اليوم يتعين الانتباه إلي أنه لا يمكن الحديث عن' الاقتصاد القائم علي المعلومات المعرفة' دون الأخذ في الاعتبار ما أفرزته ثورة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات من انشطة اقتصادية مبدعة وجديدة تماما وغير مألوفة بالنسبة للاقتصاد التقليدي
وفي الوقت نفسه لا يمكن الحديث عن' اقتصاد المعرفة' دون الأخذ في الاعتبار أن هذه الأنشطة والأشكال الاقتصادية الجديدة لم تولد في فراغ أو تعمل في بيئة بكر غير مسكونة أو مستندة بأي أنشطة أخري قديمة, ومن هنا فإن عند وضع المصطلح يتعين الانتباه جيدا للمفاهيم والعناصر التي يركز عليها كل من التيارين معا وليس أحدهما فقط, والتي تقودنا إلي القول إن مصطلح' الاقتصاد القائم علي المعرفة' يعلو من حيث الشمول ورحابة المعني فوق مصطلح' اقتصاد المعرفة', لأنه يقودنا في طريق أفقي عريض يصل بنا إلي اقتصاد تتعامل كل قطاعاته علي أساس المعرفة, في حين يأسرنا مصطلح اقتصاد المعرفة في طريق رأسي ضيق يجعلنا في النهاية محاصرين داخل قطاع إنتاج وتوليد وتوزيع المعرفة ومنتجاتها.
وانطلاقا مما سبق يمكن القول إننا حينما نتحدث عن اقتصاد الإنترنت فنحن عمليا نتحدث عن جزء أو شريحة من اقتصاد المعلومات والمعرفة.. كيف وما هي ملامح هذا الاقتصاد؟.. إلي الأسبوع المقبل.